02-04 الرسائل المجلد الثانی – رسالة في بيان سر ارسال الرسل والخلود في النعيم …ـ مقابله

بيان سر ارسال الرسل و الخلود في النعيم و الجحيم

و کيفية التلذذ و التألم في الاخرة

 

من مصنفات العالم الربانی و الحکیم الصمدانی

مولانا المرحوم الحاج محمد باقر الشریف الطباطبایی اعلی‌ الله مقامه

 

 

فهرس الرسالة الرابعة

 

فائدة: لکل شيء وجود و ماهية و له مقتضيات و لوازم

فائدة: کل شيء في بقائه و نمائه يحتاج الي المدد الجديد من جنسه

فائدة: وجوب وجود المعلمين في کل زمان

فائدة: من کمال الصنع خلق الحجة اولاً ثم خلق المحجوج ثانياً

فائدة: کيفية اکتساب النفوس من هذا العالم المادي

بيان المراد من اکتساب النفوس من العوالم الدانية

سر ان النفوس لاتعرف لذاتها عن اضدادها مع انها عارفة مدرکة

سر وجود اللذات و الالام و احساسها في الاخرة و عدم احساسها في الدنيا

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 344 *»

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين و صلي اللّه علي محمد و آله الطيبين و رهطه الهادين المهتدين و لعنة اللّه علي اعدائهم الممتنعين عن السلوك في طريق الملة و الدين.

و بعد هذه كلمات وجيزة في شرح سر ارسال الرسل و انزال الكتب و الدعوة الي اللّه سبحانه و الامر ببعض الاعمال و الامور الظاهرية و الباطنية و النهي عن بعضها و سر التنعيم و الخلود في النعيم و سر التعذيب و الخلود في الجحيم و كيفية الالتذاذ و التألم في الاخرة علي ما رزقني اللّه سبحانه من بركة اوليائه جزاهم اللّه خير جزاء المحسنين كما هو اهله و شرح ذلك يقتضي رسم فوائد.

فائدة

ان اللّه سبحانه خلق كل شي‏ء في حده و مقامه و عالمه و قدر بمقتضي حكمته البالغة لكل شي‏ء وجوداً و ماهية و مادة و صورة و جعل لماهيته حدوداً مميزة بها يمتاز كل شي‏ء عن كل شي‏ء و لولاها لما كان الشي‏ء شيئاً و لما كان هو هو و تلك الحدود المميزة علي نحو الكلية ستة و هي الكم و الكيف و المكان و الزمان و الجهة و الرتبة و باقي الحدود الجزئية التي عدوها يندرج تحت هذه الستة في الحقيقة كما ان الاضافة و الفعل و الانفعال من مقولة الكيف و الوضع يندرج تحت الجهة و مقادير هذه يندرج@تندرج خ‌ل@ تحت الكم. بالجملة لابد لكل شي‏ء ان‏يكون له وجود و ماهية و لابد للماهية من ظهورها في حدودها فاذا كان الشي‏ء يكون هكذا و اذ لم‏يكن لم‏يكن فاذا كان هذا من الحكمة لم‏يخل الحكيم تعالي بشي‏ء من الحكمة فجعل لكل

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 345 *»

شي‏ء بما هو شي‏ء مقتضيات و لوازم بحيث اذا اخل بشي‏ء منها اخل بالحكمة مثلا لما خلق النار بما هي هي جعل لها@فيها خ‌ل@ مقتضيات و لوازم من الصعود و الاصعاد و الحرارة و الاحراق و الخفة و التجفيف و تفريق المختلفات و جمع المؤتلفات و النور و الضياء و غير ذلك من صفاتها و لوازمها و خلق التراب مثلا في مقابل النار في الصفات و اللوازم المذكورة من الهبوط و الاهباط و البرد و التبريد و الثقل و التثقيل و عدم النفوذ في شي‏ء و الكدورة و الظلمة الي غير ذلك من صفاته و خصاله فاذا خلقهما اللّه الحكيم خلقهما هكذا اذ لو خلقهما علي غير ذلك فحينئذ خلق غيرهما و لم‏يخلقهما.

فلو قيل ما المانع من مثل هذا الخلق اقول لايجدي هذا الفرض ايضاً نفعاً و لايورد علي ما نحن فيه ايراداً بل الحكمة امر جار في كل شي‏ء و لايخصصها شي‏ء فنقول ان ما فرضته ايضاً لابد له ان‏يخلقه علي ما هو عليه و اذا خلقه علي ما هو عليه خلقه من مادة و صورة و وجود و ماهية و لوازم و مقتضيات علي ما سمعت و لن‏تجد لسنة اللّه تبديلا و تحويلا ماتري في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل تري من فطور.

فائدة

و من البديهيات ان كل شي‏ء يحتاج في بقائه الي المدد الجديد. قال سبحانه بل هم في لبس من خلق جديد و لا شك ايضاً ان المدد لابد و ان‏يكون من جنس المستمد اذا اريد رباؤه و نماؤه و التذاذه لان كل شي‏ء هو هو بما هو به هو و ما هو به هو هو ما يوجد فيه من ما به هو هو فاذا استمد من جنس ما هو به هو ازداد نماء و رباء و زيادة فلو استمد بخلاف ما هو به هو و هو ضد ما هو به هو فحينئذ يضعف و يذبل الي ان‏يمرض ثم يموت اذا داوم علي ذلك كما تري ان امداد النار ينبغي ان‏يكون من جنسها اذا اريد زيادتها و اشتعالها فلو سلط عليها البرودة و الرطوبة و استمدت منهما يضعف

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 346 *»

بنيتها شيئاً فشيئاً الي ان‏تخمد بالكلية و كذا امداد المياه بالرطوبة و البرودة فاذا@فان خ‌ل@ سلط عليه الحرارة و اليبوسة يضعف بنيته شيئاً فشيئاً و يصير بخاراً ثم هواء ثم ناراً و هذا سر سار في جميع الاشياء و من هذا قيل ان حفظ الصحة بالمثل و دفع المرض بالضد.

و اذا قيل كيف يستمد شي‏ء من ضده مع انه ضده و مفنيه اقول اولاً ان ما قلت كلها مشهود فانظر ماذا تري و اما سر قبوله و استمداده من ضده مع مضادته له هو ان الاشياء كلها في كل عالم مخلوقة من امكان ذلك العالم و ذلك الامكان هو المادة المشتركة في الكل و هي الطبيعة السارية في الكل الا انها لما ظهرت بأشياء عديدة و قوابل متعددة ظهرت لكل فرد بصورة خاصة له ليمتاز كل عن@من خ‌ل@ صاحبه فيقع الضدية بين الافراد المصورة بسبب الصور و الصور كلها من امكانات المادة و ليست مضادة لها فلا ضدية بين الصور و المادة و انما الضدية واقعة بين صورة و صورة و الذي يظهر بصورة ثم يظهر بصورة مضادة للاولي هو المادة فاذا اقترن ذوفعلية ضعيف بذي‏فعلية قوي تتكافؤ الفعليتان@الفعليات خ‌ل@ و يفضل فعلية القوي فما فضل من القوي اثر في مادة الضعيف و فيها جميع الصور كامنة فاستخرج من كمونها ما هو من جنسه فاذا ظهر ما هو من جنسه و هو ضد الصورة الاولي قيل استمدت من ضدها و ضعفت من ضدها او فنيت من ضدها كما ان للخل فعلية الحموضة القوية و مادته صالحة للتلبس بصورة الحلاوة و للانجبين فعلية الحلاوة الضعيفة([1]) و مادته صالحة للتلبس بصورة الحموضة فاذا اقترن الانجبين بالخل اثر فعلية كل منهما في قوة كل اي في مادتهما و استخرج كل منهما من المادة ما هو من جنسه فاذا تكافأ@تکافئا خ‌ل@ الفعليتان حصل بينهما مزاج برزخ بين الفعليتين فحصل السكنجبين فضعف حينئذ فعلية كل واحد منهما بسبب الفعل و الانفعال و الامداد و الاستمداد كل منهما في كل و اما اذا فضل

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 347 *»

فعلية الخل علي فعلية الانجبين بعد تكافؤ المتكافئين فغلب علي الانجبين لامحالة و استخرج من مادة الانجبين ما يجانسه و هو الحموضة فيصير الانجبين بذلك خلا و افني الانجبين بالكلية و ذلك سر سار في جميع الملك و الملكوت من الدرة الي الذرة ماتري في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل تري من فطور و ذلك سنة في حكمة الحكيم لن‏تجد لها تبديلا و لن‏تجد لها تحويلا و لذلك امر اللّه سبحانه باتباع الاقوياء في الخيرات في آي عديدة و نهي عن اتباع الاقوياء في الشرور في آي متعددة و وردت الاخبار المتجاوزة عن حد التواتر بذلك بل اذا تفكر العاقل يجد جميع الشرائع من لدن آدم الي الخاتم الي يوم قيام القائم الي يوم القيامة علي ذلك و لايجد غير ذلك في جميع الاديان وفقنا اللّه سبحانه لاتباع آل محمد: بفضله و جوده و كرمه انه ذوالفضل العظيم.

فظهر من هذه الفائدة ان الضعيف يضمحل في جنب القوي و القوي غالب عليه يغلبه علي‌ ما@يغلبه بما خ‌ل@ هو عليه ان خيراً فخيراً و ان شراً فشراً و اذا تفكر العاقل في انواع التأثيرات و في كل نوع بأنواع التأثيرات علم ان التأثيرات مما لايقدر احصاؤها لبشر لان اللّه سبحانه ماجعل لرجل من قلبين في جوفه و ليس له الا قلب واحد يعلم شيئاً ثم يغفل عنه و يعلم شيئاً آخر و هكذا و لايمكنه علم شيئين في آن واحد فكيف يمكنه علم الاشياء و تأثيراتها في هذا العمر القليل بل اذا تفكر علم انه لو عمره اللّه سبحانه عمر الدنيا لايمكنه العلم بجميع الاشياء لانه دائماً واحد و له قلب واحد و لايقدر علي التوجه الا الي شي‏ء واحد فكيف يقدر علي العلم بجميع الاشياء و معرفة قراناتها و تأثيراتها التي لا نهاية لها بل اذا تفكر علم ان التأثيرات ليست من باب واحد حتي يقدر علي العلم النوعي بها لان التأثيرات بعضها طبيعية و اعطي بعض علم هذا النوع بعض الخلق من الحكماء و ذلك المعطي ايضاً قليل من كثير بل لايعد لكثرة قلته مع العلم الكثير الذي هو علم طبيعيات العالم لان كل

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 348 *»

شي‏ء له صورة مخصوصة به@له خ ل@ و طبيعته من صورته و لايعلم كل شي‏ء الا من خلقها و بعضها تأثيرات خواصية و كان معرفتها لم‏تتعد عن خالقها و حججه: الي غيرهم. نعم يعلم بعضها بعض الخلق علي التقليد و التجربة لا علي العلم و المعرفة كما يعالج العجوز المرضي تقليداً من طبيب و لاتعرف الحر من البرد و لا الحار من البارد كذلك يعلم بعض الخلق بعض الخواص علي حسب التجارب و لايعلم سرها ابداً نعم يلوك بعض الحكماء بين لحيين بأن تأثيرات الخواص من الصورة النوعية و التأثيرات الطبيعية من الصورة الشخصية و انت تعلم ان النوع اذا كان ذا خصلة و خاصة تظهر تلك الخاصة في الافراد و الاشخاص لامحالة. فاذا كان النوع حاراً مثلا ظهر حرارته في الافراد لامحالة و الا فلا كما تري من ان النار نوع في افراد النيران و هي حارة و تعطي حرارتها مادونها من الافراد و تظهر حرارتها من جميع مظاهرها و لايمكن ان لم‏يظهر@لايظهر خ‌ل@ من فرد من افراد النار حرارة و هذا السر سار في جميع الانواع بالنسبة الي الاشخاص ماتري في خلق الرحمن من تفاوت فظهر ان القول بتأثير الخواص من المادة النوعية و تأثير الطبائع من الصورة الشخصية كلام لاينبغي ان‏يصدر من الحكيم فجواب لاادري في هذا المقام احسن الجواب و من تفكر في العلوم الغريبة كالسحر و الطلسمات و الليميا و السيميا و الريميا تحير في خواص الاشياء و تأثيراتها مما لايخفي علي منتحليها هذا مقناطيس قد تحير فيه العاقل من جذبه الحديد أهو من باب الجنسية فلم لم‏يجذب الحديد الحديد ام من الكيفية و ليس فيه حرارة ملمس ازيد مما@لما خ‌ل@ في سائر الاشياء و اعجب من ذلك انه يجذب الحديد من وراء الحائل و ان كان غليظاً صلباً كما اذا وضع المقناطيس في ظهر ظرف من الظروف النحاسية او غيرها و الحديد في طرف آخر و اعجب من ذلك ان الحديد المماس له يصير جذاباً لحديد آخر و اعجب منه انك اذا تحاذي به حديدة رقاص المقدار يوماً ما من سمت القبلة او القطب و تقوم الحديدة

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 349 *»

الي ذلك السمت مادامت منصبة علي المقدار و كلما تديرها تدور الي ان‏تصل الي ذلك الجانب فتقوم.

هذا تأثير جماد في جماد و تأثير الجماد في النباتات ايضاً مما لايخفي علي المتدبر و يطول ذكر الجزئيات المجربة المكتوبة في مواضعها و ليس المقصود سرد الخواص و طبائع الاشياء بل المقصود تمام المقصود اثبات الطبائع المختلفة و الخواص المتشتتة و التأثيرات لها و ذلك لايحتاج اليها لدي المتنبه العاقل الا ان الاشارة و التذكير مما لا ضير فيها فأقول من العجب الذي يرونه كثير من الناس عقد الخيوط و امثالها عند جريان صيغة النكاح كيف يؤثر في بدن الشخص الخارجي و يحصل له العنن و لايكاد يقدر علي الدخول الا بعد حل العقد او تدبير آخر هذا اثر جماد بل اثر عقد جماد في بدن الانسان و اغرب منه و اعجب في تأثير الجماد في نفس الانسان فربما يوجد جوهر من الجواهر كألماس يورث الرعب من لابسه في القلوب و رب جوهر يورث الحفظ من شر النفوس كالعقيق و لايخفي ذلك علي من راجع الاخبار الواردة في خواص الجواهر و من راجع غيرها من الكتب المدونة لذلك من القدماء و رب جوهر و خرزة يصير سبباً للمحبة بين النفوس و رب خرزة يصير سبب العداوة و هذا اتربة القبور القديمة تؤثر تأثيرات عجيبة في رفع العشق الذي لايرفعه الادوية في سنين عديدة و هذا تراب المربع يؤثر في النفوس تأثيرات عظيمة من العداوة بين النفوس و التفريق. بالجملة تأثيرات العالم بعدد الموجودات و الاصرار في اثبات امثال ذلك يعد من اظهار البديهيات لكن لما كان ما قصدت رسمه في تلك الاوراق مترتباً علي ذلك اشرت اليها فلا بأس بها ان شاء اللّه.

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 350 *»

فائدة

فاذا ظهر ان لكل شي‏ء اقتضاء في كونه هو هو و هو يقتضي في بقائه المدد من جنسه الذي هو مقويه و التنحي عن ضده الذي هو مفنيه فأقول انه لا شك ان عالم النفوس الانسانية عالم مجرد عن المواد الزمانية و المدد الملكية و لا شك ان المجرد ضد المادي و الملكوت غير الملك و الغيب غير الشهادة فينبغي ان‏يكون امداد المجرد مجردة و امداد المادي مادية فاذا استمد مجرد@المجرد خ‌ل@ من المادي الذي هو غيره و ضده يضعف قواه التي هي مما هو به هو و كذا العكس و اذا استمد من المجردات يقوي بنيته و يزيد و ينمو بقدر استمداده و لا شك ان كينونة النفس كونت علي العلوم و الادراكات و التنحي عن جمود الجمادات و النباتات و الحيوانات فكلما تزداد علماً تزداد سعة و كلما يقل علمها يضيق صدرها حتي كأنها لاتقدر علي التحول عن مكانها كالسهم في كنانتها و لا شك ان العلم الذي يصير سبباً للسعة و الاحاطة هو العلم باللّه المحيط و العلم برسله و فضائلهم و مقاماتهم و العلم بأحكامهم لا كل علم سماه الناس علماً اذ لا شك ان العلوم الملكية المتكثرة التي لايزداد صاحبها الا بعداً عن المبدأ لايصير سبباً لترقي النفس و التخلص من الماديات التي هي ضد كينونتها بل في الواقع ان العلوم المادية هي مكتسبات النفس من المواد لا غير و تلك المكتسبات هي اضداد كينونتها المفنية لها فلما علم اللّه سبحانه ان مقتضي فطرة النفوس ان‏ لاتركن الي المواد و ان ‏لاتكتسب منها شيئاً و علم ان تخلصها بأي شي‏ء و بأي عمل و فعل و لم‏يرض لهم ما هم عليه من الجهالة ارسل اليهم الرسل و انزل عليهم الكتب و سن لهم السنن و الشرائع و الاحكام و علمهم طريقة السلوك الي اللّه سبحانه و طريق التخلص من مقتضيات العوالم التي دونهم و لا شك ان علم التخلص عن كل فرد فرد من اجزاء العوالم الدانية التي لا نهاية ‏لها ليس الا عند من احاط بكلها

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 351 *»

علماً و هو اللّه سبحانه فلما رأي سبحانه ان كل ذلك العلم مما لايمكن ان‏يتحمله احد من خلقه من افراد البشر لتحمل ذلك العلم اقواماً يكون عالمهم فوق عالم البشرية محيط عليه و استخلصهم و اصطفاهم و حمل عليهم جميع ذلك العلم و ارسلهم الي البشر في لباسهم ليأنسوا و يميلوا اليهم و لايستوحشوا منهم فجاؤا و قاموا بين ظهرانيهم و دعوا الناس الي ما دعوا فأجابهم من اجابهم و نجا و انكر عليهم من انكر و هوي لعدم علمه بنفسه عن كيفية التخلص فبقي علي ما كان بل نزل هابطاً الي درك من الدركات لاجل انكاره.

بالجملة فذلك سنة اللّه سبحانه التي لن‏تجد لها تبديلا. فمادام اللّه سبحانه لم‏يرض لعباده الاعراض عنه و الاقبال الي الشيطان البعيد عن المبدأ لابد و ان‏يقدر في حكمته المتقنة ان‏يبين الناس@للناس خ‌ل@ ما نزل اليهم. قال سبحانه ان علينا للهدي و قال ان علينا جمعه و قرآنه و ذلك مشهود لكل ذي‏مسكة ان الناس ولدوا حين ولدوا جاهلين لايعلمون شيئاً و لايهتدون و هؤلاء الجهال لايعلمون شيئاً من حكم هذا العالم المحسوس كما هو ظاهر فضلاً عن علم الغيب المسطور المحجوب عنهم الذي ضرب دونه آلاف الاستار من انواع الستور و لا شك ان الابلاغ و الهداية لايكون احسن مما كان من عادة اللّه سبحانه من ارسال الرسل و التلبس بلباس الناس@التلبس علي الناس خ‌ل@ للاستيناس فلابد في الحكمة التي حكم اللّه عليها بالقضاء المحكم و الامضاء المبرم ان‏يكون بين الجهال الذين اراد اللّه سبحانه منهم التقرب منه و الاقبال اليه عالماً من عنده سبحانه من نبي او امام او وصي: في قرون و سنين خبيراً مطلعاً علي ما اراد اللّه سبحانه من عباده و ذلك لايمكن الا ان‏يكون قلب ذلك الرجل العالم محلاً لمشيته و ممكناً لارادته حتي يمكنه الاطلاع علي ما شاء اللّه سبحانه و اراد من خلقه و ذلك لايمكن لكل احد من اعراض الناس الذين يوسوس في صدورهم الوسواس الخناس بمحض مطالعة

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 352 *»

الاخبار المختلفة و الايات المتشابهات التي اذعن عندها جميع النفوس بالعجز عن الفهم و ادراك المراد و لاسيما اذا اقر علي نفسه بعدم الاطمينان علي ما يقول لكثرة الحوادث الحادثة الموجبة للشكوك و الشبهات التي لم‏ينج منها الا الاقلون و هب ان احداً يقول بالعلم في الاحكام الشرعية هل يغني ذلك عن العلم برضاء اللّه و سخطه و عن العلم بما اراد اللّه سبحانه من عباده في كل قرن قرن و زمن بعد زمن و هذا الذي تراه من الاحكام الشرعية الظاهرية هي الاداب و الخدمات التي تفعل لاجل ارادة اللّه سبحانه المستودعة في قلب المرسل من عنده سبحانه و حقائق تلك الشرائع مستورة عن الناس كلهم بحيث لو اطلعوا علي قليل منها اضطربوا اضطراب الارشية في الطوي البعيدة لان ذلك المرسل الذي سكنت في قلبه المشية اذا قال اراد اللّه سبحانه منكم كذا و كذا يصير اقواله شريعة و احكاماً و هب انك عرفت اقوالا بلا قائل و رأيت سراباً من غير الوصول الي الماء هل يجدي لك نفعاً من الظماء و اين معني هذه الاقوال فان لكل لفظ معني وضع اللفظ بازائه و انما وضع اللفظ للوصول الي المعني و الا فاللفظ من حيث هو هو ليس فيه شي‏ء و تعلم اللفظ لاجل اللفظ لايجدي المتعلم شيئاً الاتري ان الخبز اسم للمأكول و الماء اسم للمشروب و النار اسم للمحرق و انك تعلمت الخبز للوصول الي المأكول و الماء للوصول الي المشروب و النار للوصول الي المحرق فالخبز و الماء و النار ليست مقصودة بالذات و انما المقصود بالذات هو المأكول و المشروب و المحرق و انما وضع بازائها الفاظ لتدل عليها و هي بنفسها في نفسها لايجدي نفعاً ابداً فانك اذا قلت الخبز و عرفت المأكول و اردته و وصلت اليه و اكلته تشبع و اذا قلت الماء و عرفت المشروب و اردته و وصلت اليه و شربته تروي و ان لم‏تعرف المأكول و المشروب و تعلمت لفظ الخبز و الماء فقط و قلت عند الجوع و العطش الخبز الخبز و الماء الماء الي ان‏ينقطع نفسك او الي آخر عمرك هل تشبع او تروي؟! معاذ

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 353 *»

اللّه. فان الذي قال لك اذا جعت فاطلب الخبز و اذا عطشت فاقرب من الماء يريد معناهما المأكول و المشروب لا الخاء و الباء و الزاي و لا الميم و الالف و الهمزة فانظر ايها العاقل([2]) و تنبه من رقدة الغفلة و تفكر ساعة في هذه الالفاظ أيكون لها معني ام لا و هل يجدي نفعاً لفظ بلا معني ام لا و اعرف سر عدم قبول الدعوات لانها بلا معني لانهم زعموا و يزعمون ان هذه الدعوات مناتر لا معني لها و انهم امروا بقراءتها تعبداً عند الحاجات و طلب السؤالات الدنيوية و الاخروية من غير روية في معناها ابداً و تراهم همهم في الشروع و الختم من دون توجه الي المعاني المدلول عليها بالالفاظ و ربما يعجب المرء بنفسه بأني قرأت ليلة كذا دعاء كذا الف مرة او قرأت القران الف مرة و هو لايعلم ان لفظ الماء لايروي و لفظ الخبز لايشبع و قد شاع ذلك و ذاع حتي صار من الاجماع الذي ليس فوقه اجماع بأن المراد و المقصود هو هذه الظواهر و العجب انهم يرون انهم في امر من امور الدنيا اذا ورد فيه دعاء مثلا يقرؤن و يتضرعون و لايجدونه مؤثراً و مع ذلك يعجبون بأنا نقرأ كذا و كذا و قد غفلوا عن معناها لاجل كثرة الاستماع عن الاباء فالاباء من غير تعقل و تفهم و انما غشي ابصارهم بل بصائرهم العادات حتي غفلوا بالكلية عن المعني بحيث لو اراده@اراد خ‌ل@ امرؤ يوماً ان‏يعلمهم ان الخبز مثلاً اسم للمأكول لايجترئ ابداً و لو قال قال:

فعبرت عن قصدي بليلي و تارة   بهند و ما ليلي عنيت و لا هندا

و ليس ذلك الا لاجماع الغافلين علي ترك معني الالفاظ و لذا قال7:

و رب جوهر علم لو ابوح به   لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا
اني لاكتم من علمي جواهره   كي‏لايري العلم ذوجهل فيفتتنا

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 354 *»

و لاستحل رجال مسلمون دمي   يرون اقبح ما يأتونه حسناً
و قد تقدم في هذا ابوحسن   الي الحسين و وصي قبله الحسنا

بالجملة وفقنا اللّه تعالي من فضله ان‏نقصد من اوامره ما قصده و لم‏يجعلنا من المتمسكين بصرف الالفاظ بحق محمد و آله صلوات اللّه عليهم اجمعين و ليس المقصود هنا الا اثبات لزوم وجود عالم من اللّه سبحانه مطلع علي حقائق الاشياء و اقتضاءاتها و حقائق النفوس و اقتضائها حتي يعلم الناس و يزكيهم من الادناس و لولا ذلك لصار الحكمة ناقصة و تعالي الحكيم عن ذلك علواً كبيراً و شهد بذلك الكتاب و السنة و العقل حيث قال اللّه سبحانه و ان من امة الا خلا فيها نذير و قال انما انت منذر و لكل قوم هاد و قال7 في حديث طويل اللهم بلي لاتخلو الارض من قائم للّه بحجة ظاهر او خائف مغمور لئلاتبطل حجج اللّه و بيناته و كم ذا و اين اولئك الاقلون عدداً الاعظمون خطراً بهم يحفظ اللّه حججه حتي يودعوها نظراءهم و يزرعوها في قلوب اشباههم هجم بهم العلم علي حقائق الامور فباشروا روح اليقين و استلانوا ما استوعره المترفون و انسوا بما استوحش منه الجاهلون و صحبوا الدنيا بأبدانهم و ارواحهم معلقة بالمحل الاعلي يا كميل اولئك خلفاء اللّه و الدعاة الي دينه هاي هاي شوقاً الي رؤيتهم و استغفر اللّه لي و لكم انتهي. فلابد في خلق الحكيم الذي اراد من خلقه التقرب اليه ان‏يخلق دليلاً يدل عليه هادياً يهدي الخلق اليه و خليفة يحفظ دينه و داعياً يدعو الي سبيله و ذلك الداعي له ظاهر كظاهر البشر يصدر منه الالفاظ و الاوامر و النواهي و باطن هو معاني تلك الالفاظ التي هي صفات الخالق الاكبر و لو لم‏يوجد فيه من صفات اللّه الاجل الاكرم لايليق بأن‏يكون خليفة و قائماً في مقام الرب الاعظم و لايعقل الخلافة الا ان‏يصدر منه ما صدر من المخلف و الا ليليق بالقيام مقام اللّه سبحانه كل احد و ما كان اللّه متخذ المضلين عضداً فلابد و ان‏يكون الخليفة ذات فعلية من فعليات الرب جل

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 355 *»

شأنه حتي يفعل بها ما اراد اللّه سبحانه منه ان‏يفعل و المعدومون للفعليات هم بأنفسهم محتاجون الي من يهديهم ربهم بالفعلية الخاصة للواجدين أفمن يهدي الي الحق احق ان‏يتبع ام من لايهدّي الا ان‏يهدي فما لكم كيف تحكمون. فلابد و ان‏يكون صفة الهداية فيه بالفعل ليكون بوجوده دليلاً علي الوجود و بذاته دليلاً علي الذات و لولا فيه من صفات الذات فما@فبما خ‌ل@ تسميه دليلاً لها فاذا وجد فيه صفات الذات صار بنفسه مضمحلاً في جنب الذات و صار بذاته صفة للذات و انت تعلم ان الذات غيبت الصفات و الظاهر اظهر من الظهور و اوجد منه و العجب انه في تلك الحال مستور لا و اللّه ليس هو بمستور بل هو اشهر من المشهور فخفي لشدة ظهوره و استتر لفرط انتشار نوره فهو هو لا اله الا هو وحده وحده وحده لا شريك له الهاً واحداً احداً فرداً وتراً. قال7 أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتي يكون هو المظهر لك متي غبت حتي تحتاج الي دليل يدل عليك و متي بعدت حتي تكون الاثار هي التي توصلني اليك عميت عين لاتراك و لاتزال عليها رقيباً و خسرت صفقة عبد لم‏تجعل له من حبك نصيباً و انت تعلم ان في دائرة الاقتران و الطريقة و الامتحان و الشريعة و الامتنان ذلك المقام مخصوص لاناس مخصوصين موجودين بالوجود الذي هو للعباد معبود و للساجدين مسجود لا كل من برز في عالم الشهود الموجود بالوجود الكوني الذي لايفقده موجود و لايمتاز فيه العابد من المعبود و الشاهد من المشهود الظاهر@و الظاهر خ‌ل@ في الغيب و الشهود و المبدأ و المنتهي و العالي و الداني و النور و الظلمة و الكفر و الايمان.

بالجملة لابد في خلق الحكيم الذي اراد استخراج ما في الكيان الي العيان ان‏يخلق خلقاً ذا فعلية اولاً ثم ان‏يخلق خلقاً ثانياً و يستخرج ما اراد من الخلق الثاني بما هو بالفعل في الخلق الاول ليكون الحكمة تامة كاملة و هو يده اليمني التي بها يفعل اللّه ما يشاء و يحكم ما يريد و من علم انه سبحانه

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 356 *»

بذاته مما لايعقل ان‏يدرك و علم انه اراد من الخلق شيئاً لايقدر ان‏يشك في وجوب وجود رسله و انبيائه و اوليائه: اذ لايعقل ان‏يظهر هو بذاته لخلقه فلابد و ان‏يكون له خلفاء في خلقه امناء في بريته هم جاهه عند الخلق و جاه الخلق عنده من يرد اللّه يبدأ بهم و من يوحد اللّه يقبل عنهم لا فرق بينهم و بينه الا انهم عباده و خلقه فتقهم و رتقهم بيده بدؤهم منه و عودهم اليه فقول انا للّه و انا اليه راجعون علي الحقيقة جار في حقهم نعم من رجع اليهم فقد رجع الي اللّه سبحانه فيمكن لغيرهم قراءة الاية علي الحقيقة الثانية و ليس المرجع ذات اللّه سبحانه فان ذلك مذهب الصوفية الخبيثة لعنهم اللّه حيث زعموا ان الناس يرجعون الي ذات اللّه سبحانه بل علي المذهب الحق ان الخلق راجعون الي مباديهم لا غير و لما كان مبدأ كل شي‏ء آية من اللّه سبحانه الظاهرة له به في درجته المنطوية تحت احديته بحيث يكون هو الظاهر فيها بها لا غير يقال للواصل اليها الواصل اليه فانا للّه اي انا مملوكون له و اللام للاختصاص و انا اليه راجعون بتقدير المضاف اي الي امره راجعون او المراد الي هو راجعون و الضمير غير الذات و هو اشارة اليه او المراد هو المراد لا غير و المراد هكذا يراد و التعبيرات كائنة ما كانت راجعة الي معانيها و هم معانيها لا غير. قال7 و اما المعاني فنحن معانيه و ظاهره فيكم فالمعاني التي يمكن التعبير عنها هي في عرصة فيها التعبيرات و الذي لا تعبير عنه لا تعبير عنه و السلام فظهر و الحمد للّه وجوب وجود المعلمين في كل قرن و زمن ليعلم الناس كيفية التخلص من الادناس لئلايكونوا هالكين فوجود العلماء لازم لبيان مرادات اللّه سبحانه اما ببيان باطني بأن‏يكونوا بأنفسهم معاني الالفاظ و بيانها([3]) و اما ببيان ظاهري ليبينوا للناس و لولاهم لمايعلم الناس شيئاً فيبقون في مهاوي المهالك و لم‏يرض اللّه الرؤف الرحيم لهم ذلك و لايقال ان الهلاك و النجاة في دائرة الشرع

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 357 *»

و لو لم‏يجئ من اللّه سبحانه احد لم‏يهلك احد فشرح ذلك يقتضي رسم فائدة.

فائدة

لا شك ان اللّه سبحانه لايحتاج الي احد من خلقه حتي امره بخدمة و حاجة و لاينفعه شي‏ء حتي امر به و لايضره شي‏ء حتي ينهي عنه بل هو الغني عما سواه القاهر ماعداه و لايأمر و لاينهي بمقتضي ذاته سبحانه و ذلك ظاهر عند اللبيب و ظاهره مسلم عند كل مسلم و ان كان بالتقليد فلا شك انه سبحانه اذا امر بشي‏ء و نهي عن شي‏ء انما امر و نهي بمقتضي الحكمة التي هي سبب نظام الملك و الملكوت و دوامهما و لئلايبقي الكمالات و الفعليات في ممكن الخفاء و بذلك لايظهر فائدة الايجاد و غايته و يصير الخلقة عبثاً و لغواً و لايصدر ذلك من الحكيم فالحكمة تقتضي ظهور ما في الكيان الي العيان و لايظهر ما في الكيان الي العيان الا بالبقاء مدة معتداً بها و لايمكن البقاء الا باستعمال ما يجانس و اجتناب ما يضار و لايمكن ذلك الا بالتعليم و الامر و النهي و لايقع ذلك في النفوس الا بالوعد و الوعيد لتشتاق الي الوعد و تخاف من الوعيد و لايؤثر في النفس الوعد و الوعيد الا ان‏يكونا حقيقياً خارجياً و هما ثمرات الامتثال و الانكار فلذلك امر اللّه سبحانه خلقه بشي‏ء ينفعهم و نهاهم عن شي‏ء يضرهم و اراهم ما ينفعهم عما يضرهم فمن جملة ذلك امور الاخرة فلما رأي اللّه سبحانه ان ركون الناس الي الحيوة الدنيا و زينتها و الاكتساب عنها يكون سبباً لجمود النفوس@النفس خ‌ل@ و الخلود في العذاب الدائم لم‏يرض لهم ذلك فخلق قبل خلقهم حجة عالماً بمقتضي كل شي‏ء ثم خلق الخلق فعلمهم المقتضيات شيئاً بعد شي‏ء و امر بأشياء تكون سبباً للتخلص عن مقتضيات الدنيا الدنية و نهي عن اشياء تكون سبب الركون الي مقتضيات ذلك و لولا الركون الي مقتضيات دار البعد سبباً لعذابهم و بعدهم عن مبدأ

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 358 *»

الخير و النور لما امرهم بذلك مجاناً من غير تأثير و ذلك الاشياء المأمور بها المنهي عنها ليست في الواقع الا مثل العقاقير الظاهرة في هذه الدنيا فلا شك انها لاتنفع ذات الاحد جل شأنه و لاتضرها ابداً و انما تنفع و تضر من استعملها فالطبيب الذي يريد بقاء الخلق لابد له ان‏ينبه علي النافع و يبين خواصه و طبائعه و كذا لابد له ان‏يبين الضار و خواصه و طبائعه اما بالبيان او العيان فبعد تعريف النافع و الضار و خواصهما و طبائعهما للناس ليس نقصاً من الطبيب ان لم‏يمتثل احد امره و لم‏يستعمل النافع و استعمل الضار و انما اللوم كل اللوم علي المستعمل لا علي الطبيب فكذلك خلق اللّه سبحانه اطباء للنفوس و هم الانبياء و الرسل و الاوصياء: ليبين لهم ما يتقون و يهديهم الي سبيل الرشاد و يريهم طريق الفساد فبعد ذلك ليس اللوم الا للمخالف فمن احسن فلنفسه و من اساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد قال سبحانه انا هديناه السبيل اما شاكراً و اما كفوراً فعلي اللّه سبحانه البيان و علي الخلق الاطاعة.

فلما علم اللّه سبحانه ان عدم البيان لهم يصير سبباً لهلاكهم بيّن لهم بلسان اوليائه: جوداً و كرماً ليتخلصوا من الهلاك و العذاب الدائم و لايقال انه لو لم‏يبين لهم فكانوا جاهلين و اذا كانوا جاهلين فلم يعذبهم لان اللّه سبحانه لم‏يعذبهم بعذاب غير ما اكتسبوا ليكون ظلماً بل مقتضي الركون الي العالم الادني يكون سبباً لتعذيب النفوس سواء علموا او لم‏يعلموا و لما لم‏يرض اللّه لهم ذلك علّمهم و هداهم. نعم، بعد اتمام الحجة و ايضاح المحجة يكون الامر اشد و اصعب بألف مرة لان التعمد علي الانكار علي اللّه سبحانه و رسله: و الركون الي متاع الحيوة الدنيا عن عمد و علم يكون اثره في النفوس اكثر من الجاهل الغافل البتة بألف مرة. هذا و الغافل الجاهل الذي يركن الي الدنيا ربما يكون من اقتضاء عادته او طبعه و ليس من اقتضاء ذات نفسه و سيزول عنه العادة و الطبع

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 359 *»

اللذان لايؤثران في ذات النفس و اما المتعمد المنكر ليس الركون منه الي الادني من اقتضاء طبعه او عادته بل هو من اقتضاء ذات نفسه لامحالة فيعلق علي عنقه يوم القيامة لامحالة نعوذ باللّه.

و ان قيل ان معذورية الجاهل مما قام عليه الاجماع و يدل عليه الاثار بحيث لا نكير له فكيف تقول انه لو لم‏يرسل اللّه سبحانه اليهم الرسل و لم‏يعلمهم لهلكوا يوم القيامة؟

اقول: لا شك في ذلك بعد اخبار الحجج: و ذلك لاينافي ما قلت لان الجاهل الذي يقع وجوده بعد الحجة يقر بالحجة و لو بحجة ما اقلا و ذلك اصل دينه و ايمانه و ذلك امر عظيم و سبب للنجاة و الثواب الجسيم عند اهل المعرفة و اليقين فبعد ثبوت اصل الايمان اذا كان جاهلا بفرع من الفروع او اصل من الاصول لايعذب بجهله البتة و هو معذور بلا شك و مع ذلك فاقد لدرجة يصعد اليها العالم العامل بلاشک و هو محصور بجهله لامحالة و محروم عما يصله العالم العامل و هو في الحقيقة له ضيق و ضنك و هو ايضاً نوع من العذاب الا انه لما لم‏يعمد الي المخالفة لم‏يؤثر ما فعله او تركه في نفسه كل الاثر فلما لم‏يؤثر فيها فلم‏يعذب@فلم‌تعذب خ‌ل@ به عذاب الايلام و لايسمي ذلك بعذاب و انما يسمي بعدم رفع الدرجة و ذلك مما لا شك فيه و لكنه لما كان في نعيم اقراره بالحجة لايحس بألم ما يجهله من الفعل او الترك و ليس حال هذا الجاهل كالذي فرضت انه لم‏يرسل اليه رسول مطلقاً و لم‏يعلم رباً و لا نبياً و لا شيئاً من امور الغيب و القيامة فهو في ضنك من العيش بسبب جهله بما يخلص النفس و ركونه فيما تقتضيه المراتب الدانية فهو في عذاب دائم بلا نعيم نعم ليس عذابه كعذاب من تعمد المخالفة يقيناً و لا شك فيه و اما كونه في عذاب دائم ايضاً مما لا شك فيه عند التحقيق فثبت و الحمد للّه انه لو لم‏يجئ احد من الحجج: و لم‏يهدوا([4])

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 360 *»

الخلق الي ما يخلص به النفس كان الخلق في عذاب دائم و من عرف سر التعذيب لايكاد يشك فيما قلت ابداً لان العذاب و الثواب في الاخرة ليسا من الامور المباينة العرضية كالعذاب و الثواب الدنياويين و انما هما في الاخرة ثمر حب العمل لا غير قال سبحانه سيجزيهم وصفهم و قال ليس للانسان الا ما سعي و ان سعيه سوف يري و قال بکفرهم لعناهم و  قال يهديهم ربهم بايمانهم فكل ذلك يدل علي ان الجزاء هو ثمر حب العمل لا غير فهذا العمل من حيث الصدور عن العبد يسمي بالعمل و من حيث القيام الي امر الرب يسمي بالجزاء فالجزاء الجهة الاعلي من العمل و العمل الجهة الادني من الجزاء لا غير ذلك من الامور الخارجة المباينة من@عن خ‌ل@ الشخص فلكل نفس ما اكتسب([5]) الخير و الشر لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت فلو لم‏يجي‏ء الحجة مع كون الخلق غافلين عن الغيب و القيامة لايكادون يتخلصون من اكتسابات الدنيا فهم حينئذ لازمون ذلك لايقدرون عن التحول عنه يوم القيامة و بذلك يصيرون مخلدين في العذاب الدائم فمن لطيف حكمته سبحانه خلق الحجة اولا ثم خلق المحجوج ثانياً ليكون صنعه محكماً تاماً كاملا فلما وصل الكلام الي ذكر الاكتسابات بين عالم النفوس المجردة و بين العوالم المادية الدنياوية ناسب ان‏نبين كيفية اكتساب النفوس من هذا العالم المادي في تلو فائدة عليحدة لتكون منفرداً عماسواه@عما سواها خ‌ل@ لانها امر مهم.

فائدة

ان اللّه سبحانه خلق الخلق اي الاناسي بمشيته خلقاً تاماً في عالمهم و هم بجميع مراتبهم من مبدئهم الي منتهاهم من عقولهم الي اجسادهم الي افعالهم و اعمالهم و اشباحهم من ذلك العالم و هو عالم الذر نزولاً و عالم المعاد صعوداً و هم في ذلك العالم خلق تام حقيقي لايحتاجون الي

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 361 *»

شي‏ء من غير عالمهم و من غير ما هم عليه مطلقاً لانهم آثار مشية واحدة يستمدون منها جميع ما هم اليه محتاجون يستغنون بها عن سواها و هي وحدها تمدهم كلما يحتاجون لا بذاتها بل بما هو في رتبتهم و مقامهم و ما هو في رتبتهم هو الظاهر فيها لا غير و الظاهر فيها هو انفسهم لا غير فهم يستمدون منها بانيتهم و قابليتهم و هي تمدهم بتجليها لهم بهم فيهم فلهم جهتان جهة الي انفسهم و هي الجهة المستمدة و جهة الي ربهم و هي الجهة الممدة و تلك الجهة هي امر اللّه الظاهر لهم اذ لو لم‏يظهر الامر لهم لايمكن لهم الاستمداد مما لم‏يظهر لهم و اذا ظهر@اظهر خ‌ل@ لهم فظهر لهم في رتبتهم فما ظهر لهم هو امر اللّه سبحانه الذي به قيام كل احد و ذلك الامر هو ظل اللّه سبحانه باعتبار ظهور الرب فيه و تجليه له و هو ظل الاناسي باعتبار انهم قائمون به لان اللّه سبحانه يمسك الاشياء بأظلتها فكل شي‏ء سواه قائم بأمره باعتبار و قائم بظلهم باعتبار و كلا الاعتبارين اعتبار واحد الا ان في النسبة الي الامر ملاحظة تلاشي الخلق اكثر و في النسبة الي الظل ملاحظة الاضمحلال اقل بالنسبة الي اللحاظ الاول. قال سبحانه يهديهم ربهم بايمانهم و قال بكفرهم لعناهم و قال يضل من يشاء و يهدي من يشاء فلما نسب الاضلال و الهداية الي نفسه سبحانه من جهة اضمحلال الخلق اوهم منه الجبر و الاضطرار فاستدرك لرفع ذلك التوهم بسائر اقواله سبحانه كقولهم يهديهم ربهم بايمانهم و قوله بكفرهم لعناهم فأشار الي رفع الاضطرار بأني جعلت انفسهم آلة خلقي و صنعي اياهم.

بالجملة ليس المقصود شرح سر الاختيار بل المراد هو ان الناس في عالمهم قائمون بأمره مستغنون به عماسواه و ليس الامر في ذلك العالم الحقيقي كالامور العوالم الدانية العرضية غير الحقيقية كما هو مشاهد لكل شاهد بأنه يستمد كل احد و كل شي‏ء من اشياء عديدة و من ممدات لاتحصي و من مؤثرات لاتتناهي بل الامر في العالم الحقيقي علي خلاف

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 362 *»

العالم العرضي يستمد كل واحد من مبدأ خاص به يستغني به عماسوي مبدئه الذي جعله اللّه سبحانه له فاذا خلق الخلق في ذلك العالم علي النهج المحكم و النظم المتقن بدا له سبحانه ان‏ينزلها@ان‌ينزلهم خ‌ل@ الي غاية البعد عن المبدأ ليشاهدوا خلقه في جميع المراتب بآلات مناسبة لتلك المراتب اذ الادوات تحد انفسها و الالات تشير الي نظائرها فلايمكن للنفوس ان‏يشاهدوا آثار صنعه و عجائب خلقه في العوالم الدانية من غير استعمال آلات من جنس تلك العوالم فلذلك قدر اللّه سبحانه لهم النزول الي تلك المنازل و الاكتساب من وراء جواسيس كل عالم بل الامر ليس كما هو المتبادر الي الاذهان الناقصة بأنه سبحانه خلقهم في عالمهم قبل هذا العالم المحسوس في قرون عديدة و سنين شتي كسني هذه الدنيا لاسيما اذا سمعوا انه سبحانه خلق الخلق في عالم الذر قبل هذا العالم بأربعة آلاف سنة فيتبادر الي الاذهان بأن تلك السنين سنون دنياوية و ليس الامر كذلك لانهم لو كانوا قبل ظهورهم في الدنيا مخلوقين تامين كاملين لم‏يعقل لكسرهم ثانياً في عالم الطبائع ثم خلقهم فيها ثم كسرهم في المواد ثم خلقهم في المثال ثم كسرهم في الجسم المطلق ثم خلقهم في هذا العالم من غير داع فائدة@و فائدة خ‌ل@ و الفضل و العبث ممتنع في خلق الحكيم تعالي. فالمراد من تعداد السنين قبل هذا العالم ليس الا بيان الرتب و في الواقع ليس الامر ما هو المتبادر الي الاذهان ابداً بل الامر في الواقع انه كل ما وقع في ذلك العالم وقع في هذا العالم و كل ما لم‏يقع في ذلك العالم لم‏يقع في هذا فما وقع هناك و ما وقع هنا كلاهما مساوقان الا ان ما وقع في ذلك العالم كان قبل هذا العالم بأربعة آلاف سنة و ما لم‏يقع لم‏يقع في كليهما فاذا لم‏يقل قائل هنا قولاً لم‏يقل هناك قولاً و اذا قال هنا قولاً قال هناك قولاً و كان معني هذا القول الذي هو القول النفساني قبل هذا القول بأربعة آلاف درجة و ذلك معني القول الذي قيل بأن السحرة اصبحوا كافرين

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 363 *»

و لم‏يؤمنوا في الصباح في عالم من العوالم و امسوا مؤمنين فاذا امسوا مؤمنين كانوا في عالم الذر قبل ذلك الوقت بأربعة آلاف سنة مؤمنين فاذا ثبت هذا المدعي ثبت ان الاناسي قبل ظهورهم في هذا العالم لم‏يكونوا في عالم من العوالم فاذا ظهروا في هذا العالم كانوا هم بأنفسهم في العالم الاعلي بأربعة آلاف سنة قبل هذا العالم و كذلك الامر في جميع ما صدر منهم فاذا لم‏يؤمنوا في هذا العالم لم‏يؤمنوا في عالم من العوالم فاذا آمنوا هنا آمنوا هناك قبل ايمانهم هنا بأربعة آلاف درجة و اذا لم‏يكفروا هنا لم‏يكفروا في عالم من العوالم فاذا كفروا هنا كفروا هناك قبل ذلك بأربعة آلاف سنة و كذلك اذا صلّوا هنا صلوا هناك و الا فلا و اذا صاموا هنا صاموا هناك و الا فلا و هكذا جميع ما كان في عالم النفوس من الذوات و الصفات و الافعال و الاعمال لابد و ان‏يحصل كلها من هنا لانها في الحقيقة ثمرات حب زرع في مزرعة الدنيا و لايمكن حصول ثمر من دون زرع فاذا زرع حب بدن زيد هنا اثمر بدن زيد هناك و ان لم‏يزرع هنا بدن زيد لم‏يكن له بدن هناك و كذا اذا زرع زيد هنا حبوب الاعمال اثمرت هناك ثمراتها اما في الجنة او في النار.

و لكن هنا دقيقة ينبغي الاشعار بها لانها من سر اللّه سبحانه المستور عن الاغيار و هو انه لايجب ان‏يكون جميع ما حصل هنا له صورة ظاهرية مرئية بالاعين الظاهرية بل ما حصل لزيد هنا اعم من ان‏يكون له صورة محسوسة ام لا و من جملة ما حصل هنا و لم‏يبصر بالحواس الظاهرة هو امر الاعتقادات و هي اصل كل خير و شر و من فروعها كل خير و شر مع انها ليس لها صورة محسوسة فلاينبغي الغفلة عن هذه الدقيقة فكم من مؤمن تلقاه في الدنيا قليل الخير قليل العمل و تلقاه في الاخرة كثير العمل وافر الخير لما في نيته ان‏يعمل جميع الخيرات و يمنعه الموانع العرضية الخارجية او الداخلية كالشهوات

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 364 *»

و الطبائع و ربما تلقي كافراً قليل الشر تلقاه يوم القيامة كثير الشر لما في نيته ان‏يعمل جميع الشرور و يمنعه موانع العرضية الخارجية او الداخلية و لذا روي بنياتهم خلدوا و لولا ذلك لايعقل الخلود في النعيم او العذاب الاليم في الاخرة مع ان المؤمن في الدنيا لم‏يبق الا مدة قليلة و لم‏يعمل الا اعمالاً قليلة و كذا الكافر فسبب الخلود هو نية الخير الدائم و نية الشر الدائم و النية هي اصل الاعمال و روحها فهي ان كانت كانت الاعمال حية و ان لم‏تكن لايعبأ بالاعمال شيئاً. قال تعالي ان يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً و روي انما الاعمال بالنيات و روي بنياتهم خلدوا فاذا ثبت ان النية اصل كل خير و شر فاعلم ان ما كان من الاعمال الصادرة من غير نية لم‏يكن لها ثمر مطلقاً يوم القيامة سواء كانت خيرات او شرور([6]) و الحكمة لاتخصص بشي‏ء ابداً فلذا يشترط في قبول الاعمال الشرعية ايقاعها علي وجه النية و التقرب الي اللّه سبحانه فما يقال من ان لكل عمل من الاعمال الدنيوية وجه([7]) عند النفس ليس المراد من هذا القول ما يتبادر الي الاذهان الناقصة بل المراد ان كل عمل عمله الانسان عن عمد و شعور و نية له وجه عند النفس ان خيراً فخيراً و ان شراً فشراً و لما كان شرور المؤمن كلها من اقتضاء اعراضه الحيوانية ام النباتية ام الجمادية و ليس له عمد و نية من عند ذاته لم‏يكن لاعماله السوأي وجه عند نفسه مطلقاً فسيئاته مغفورة و عيوبه مستورة باذن اللّه سبحانه ببركة مواليه: و كفارة جميع معاصيه سكرة موته و ان كانت بعدد ذرات الموجودات و سر ذلك ان جميع معاصيه انما صدرت عنه لاقتضاء اعراضه لا لاقتضاء ذاته فاذا نزع عنه الاعراض ترجع آثارها اليها و الحمد للّه رب العالمين و انما غفر اللّه سبحانه ذنوبه جميعاً ما تقدم منها و ما تأخر بقوله سبحانه انا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و ذلك هو الفضل من اللّه سبحانه

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 365 *»

الذي لايقدر احد من قليل من شكره و هو خير مما يجمعون الحمد للّه كما هو اهله و كذا في جهة المقابل ليس لحسنات المنافقين وجوه عند انفسهم و الحمد للّه لانها لم‏تصدر منهم من ذاتيتهم و انما تصدر من اعراضهم من الحيوانية و النباتية و الجمادية فاذا نزع عنهم الاعراض يتبعها آثارها و تلك الاعراض ليست منهم و لا اليهم و الحمد للّه قال تعالي او كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لايقدرون مما كسبوا علي شي‏ء و قال و جعلناه هباء منثوراً و جعل الاعمال هباء او كرماد اشتدت به الريح مع انه سبحانه عادل لايظلم احداً من خلقه بل هو ينزع الاعراض باتباع آثارها اليها و هو مقتضي عدل اللّه الذي لايظلم الناس شيئاً.

بالجملة فاذا سمعت ان وجوه الاعمال الدنيوية حاضرة عند النفوس فاعرف اي عمل له وجه عندها و اي عمل ليس له وجه مطلقاً عندها فان من الاعمال ما يكون بدؤه من الدنيا و عوده اليها و لايجاوزها مطلقاً فثوابه فيها و عقابه فيها و هو الاعمال الصادرة من الانسان من غير روية و فكر و اغلب معاصي المؤمنين من هذا القبيل و اغلب طاعات المنافقين من هذا القبيل و من الاعمال ما له وجه في البرزخ و ليس له في الاخرة وجه مطلقاً و هي الاعمال التي تعلمها@تعملها خ‌ل@ عن عمد و فكر و روية و لكن لاتحبها ابداً فهي لها جسد في الدنيا و لها وجه في البرزخ و ليس لها في الاخرة وجه و اثر مطلقاً و من الاعمال ما يصدر من الانسان عن عمد و فكر و روية و محبة فتلك الاعمال لها جسد في هذه الدنيا و روح في البرزخ و وجه في الاخرة و اغلب طاعات المؤمنين من هذا القبيل و اغلب عصيان المنافقين من هذا القبيل فما صدر من الانسان عن محبة فله وجه عند النفس و هو لم‏يزل يفارق الانسان ابداً ابداً سواء كان خيراً او شراً فاذا عرفت هذا فاعرف سر قول الباقر7 في حديث طويل.

بالجملة ليس المقصود شرح ذلك و انما المقصود بيان اكتسابات

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 366 *»

النفوس من العوالم الدانية و ظهر مما مر انه لابد و ان‏يكون لكل انسان من بدن في هذه الدنيا حتي يحصل له بدن في الاخرة و ليس الامر علي ما يتبادر اولاً الي الاذهان فاذاً لابد من حصول البدن من هذه الدنيا لكل احد و يكون نفسه وراء جسده حاصلة منه و من مشاعره فاذا كانت حاصلة منه فكانت قبل تذكير المذكر و تنبيه المنبه و ايقاظه لها من وراء الجسد لاتتذكر شيئاً الا ما يقتضي الجسد لا غير فاذا كان الجسد صفراوياً يكون النفس غضوباً و اذا كان بلغمياً تكون حليماً او دموياً تكون حبيباً او سوداوياً تكون وحوشاً و لاتعلم شيئاً الا ما علّمها الجسد من علومه و اقتضاءاته و لما كان الانسان مركباً من الاخلاط الاربعة يكون فيه مقتضيات الكل فمرة تعلم من الصفراء و مرة من الدم و مرة من السوداء و مرة من البلغم فهو رجل فيه شركاء متشاكسون لايقدر علي الثبات علي امر ابداً فلابد له من التعلم من الاضداد و الاكتساب منها و تلك الاكتسابات اذا سرت في النفس نعوذ باللّه لايمكن نزعها عنها ابداً اذ عالمها عالم لايمر فيه الآنات و الاوقات العديدة فيكون الانسان المكتسب دائماً في اكتسابه في اول حال الاكتساب و لايمر عليه وقت في ذلك العالم حتي ينسي ما ذكره نعوذ باللّه. فتلك الاكتسابات حاضرة لديه واقعة بين يديه واقفة نصب عينيه لايقدر علي التحول عنها ابداً و انت تعلم ان مقتضيات الحيوانية و النباتية و الجمادية كلها منافية لما يقتضيه النفوس المجردة فهي لما نزلت من عالمها و غاصت في لجج ظلمات بحار العوالم الدانية نسيت مقتضاها من التجرد و الميل الي مبدئها و كدرت حواسها و استأنست بالمجاورة لتلك و مقتضياتها و زعمت نفسها نفس تلك العوالم و نسيت موقفها بالكلية و اتبعت هوي ما اقتضت تلك العوالم و خصالها فان ذكرها مذكر تذكر عالمها و مقتضاها و الا فهي بنفسها فقد غشيها الاعراض حتي لم‏تقدر علي التذكر بنفسها ابداً الا ان‏تكون هي بنفسها من النفوس التي خلقت لاجل الهداية يوم اول

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 367 *»

و تلك النفوس هي نفوس الانبياء و الاولياء و الاوصياء صلوات اللّه عليهم.

بالجملة فاذا اكتسب النفس مقتضيات العوالم الدانية زعماً منها انها من مقتضيات ذات نفسها و هي مخالفة لكينونتها غير موافقة لها و تصعد من تلك العوالم و تخلع عن نفسها حجبها التي غشتها صفت حواسها فوجدت ما عملت حاضراً عندها لايمكنها التخلص عنها فيكون طائرها في عنقها لايفارقها طرفة عين مع انها اي مقتضيات العوالم الدانية منافية لكينونتها مضادة لما هي عليه مفنية لها ابداً فهي علي حال نعوذ باللّه لاتموت فيها و لاتحيي فتموت دائماً مما هو مفنية لكينونتها و هي الاقتضاءات الدانية و تحيي دائماً بكينونتها الاصلية و لما كانت الاكتسابات صوراً لبست علي مادة نفسه استحالت المادة في ضمن تلك الصور فنفذت في اعماقها فكأنها ليست بحية بحيوة صرفة لما نفذت فيها الصور المفنية و ليست بميتة بالموت الصرف لوجود كينونتها الاصلية فهي دائماً لاتموت بالموت الصرف و لاتحيي بالحيوة الصرفة فوجودها مركب من الموت و الحيوة و هي واقعة في ملك لاتنقضي اوقاته ابداً فهي علي الدوام واقفة بين الموت و الحيوة نعوذ اللّه من تلك الاهوال و الاحوال و ذلك هو معني ما روي في اهوال الصعود بأنه عقبة شاقة كلما يصل اليه الارجل و الايدي و سائر الاعضاء ذابت و كلما ارتفعت عنه عادت و هكذا و ليس هذا الذوب و العود في آنين اذ ليس في ذلك العالم آنات نعوذ باللّه بل النفس المكتسبة دائماً في حالة الذوب و العود و دائماً واقفة بين الموت و الحيوة فبذلك تعرف معني قول المشايخ نور اللّه برهانهم بأن مقتضي الوجود هو الحوم حول الرب و مقتضي الماهية هو الحوم حول النفس فاذا دار الوجود حول النفس بالتبعية للماهية استمد بخلاف ما هو عليه فبذلك يعذب فالمراد من الوجود في امثال هذه المواضع هو النفس من حيث هي و من كينونتها التي خلقت

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 368 *»

عليها اولا و المراد بالماهية هي الصور المكتسبة من العوالم الدانية فاعرف معني كلامهم الصعب الذي لايطلع عليه الا ما اراد اللّه سبحانه منه لمن اراد و هو مستور عن الاغيار مخفي تحت حجب التعبيرات العلمية و التأويلات الحكمية فكثيراً ما يسألون عن كيفية التعذيب و يجيبون بهذا التعبير بأن الانسان مركب من وجود و ماهية و الوجود جهة النور و الخير و الكمال و الانبساط و عبادة الرب و اكتساب الجنان و الماهية جهة الظلمة و الشر و النقص و الضيق و اضداد ما في الوجود فاذا عمل الانسان بمقتضي الوجود يتصف بمقتضياته و اذا عمل بمقتضي الماهية يتصف بمقتضياتها و يعذب وجوده باستمداده من الماهية و باكتسابه مقتضاها.

و انت عرفت و الحمد للّه ان المراد بالوجود هنا هو النفس من حيث انها نفس و هو يقتضي بالفطرة الاولية غير المعوجة التخلص عما يقتضيه العوالم الدانية له العرضية بالنسبة اليه و المراد بالماهية هنا هي المكتسبات التي اكتسبتها من العوالم التي هي دون رتبتها و ليس المراد بالوجود هنا هو جهة الرب الشرعية و نور الرب الشرعي لان نور كل شي‏ء ملحق به و نور الرب الشرعي و الجهة اليه ملحق به و هو لايعذب ابداً ابداً و لكن المراد بالوجود هنا هو الفطرة الاولية التي خلقت النفوس عليها و لا شك ان النفوس من حيث كينونتها الاولية و فطرتها التي فطرها@فطرهما خ‌ل@ اللّه سبحانه عليها يقتضي النور و الخير و الكمال و اطاعة الرب المتعال و لكن بعد نزولها في المنازل الدانية و غشيان حجبها عليها و نسيان عالمها حسبت لذات الدنيا لذة ذات نفسها و لم‏تحس بآلامها مادامت غاصة في حجبها و كدوراتها و كلما اكتسبت منها حصلت لها صورة و ماهية فالمراد من الماهية هنا هي الصور المكتسبة من العوالم الدانية لا صورة النفس من حيث ذات نفسها لانها قبل اكتسابها منها لها صورة نفسانية و تلك لاتقتضي الا ما اقتضت المادة الملكوتية لا غير فتلك الماهية التي بها يكون الوجود

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 369 *»

وجوداً و هي لاتقتضي ما يخالف الوجود ابداً فالماهية التي مقتضاها ضد مقتضي الوجود هي الماهية الحاصلة للوجود بعد ما كان موجوداً بصورته الاولية و ماهيته الاولية.

و ان قيل اذا كانت مقتضيات العوالم الدانية من جنس العوالم الدانية فكيف تصعد الي عالم النفوس و ان كانت من عالم النفوس فكيف تعذب النفوس باكتسابها؟

نقول ان العوالم الدانية لاتصعد الي عالم النفوس ابداً و لايعقل ذلك و كل شي‏ء يرجع الي اصله و كل شي‏ء لايتجاوز ماوراء مبدئه بلا شك و مقتضيات تلك العوالم ايضاً آثار لها و لابعاضها و اشخاصها و لاتصعد هي بأنفسها الي عالم النفوس فضلا عن آثارها و اشباحها فالمراد من اكتساب النفوس من العوالم الدانية ليس جذبها منها اليها شيئاً بل المراد من اكتسابها منها هي تعلقها بها و محبتها اياها و التهيؤ([8]) بهيئاتها و التخلق بأخلاقها لا غير فتلك الاكتسابات في الواقع كلها من النفوس و لذا تصعد اليها الا انها لما كانت علي هيأة العوالم الدانية تكون مخالفة لما خلقت النفوس لاجلها و ما خلقت النفوس عليها هي الارتفاع عن تلك العوالم و التخلص منها و الزهد عنها فلما تعلقت اليها لغفلتها عما تقتضي هي بنفسها بالفطرة الاولية و صارت منهمكة فيها و تصورت ثانية علي خلاف ما تقتضيها اولا تعذب فيها لانها علي خلاف كينونتها و لما كانت النفوس من حيث ذات نفسها امتنعت عن التذكر بما تقتضيه الفطرة الاولي بعد النزول و الخوض في مهاوي الغفلة خلق اللّه سبحانه اقواماً خاصة اقوياء بحسب الخلقة الكونية لتذكير الغافلين و تنبيه النائمين و هم الانبياء و الاولياء و الاوصياء([9]): و لولا وجود هؤلاء صلوات اللّه عليهم

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 370 *»

لهلك جميع الناس لما اكتسبوا من مقتضيات الجمادية و النباتية و الحيوانية و لم‏يعرفوا الحق من الباطل و الماء من السراب و كانوا قد زعموا لذات هذه الدنيا هي اللذة الحقيقية و متاعها هي المتاع الحقيقي و الحيوة العرضية الدنيوية هي الحيوة الواقعية.

و ان قيل كيف لاتعرف النفوس لذاتها عن اضدادها و هي عارفة مدركة شاعرة؟

اقول ان النفوس بعد التخلص عن الاعراض شأنها ما تقول و لكنها حين الشوب و الغوص و الخوض فيها لاتقدر علي تمييز الواقع ابداً اماتري النفوس تشتاق الي متاع الدنيا يوماً و ليلة و تحسبها لذات ليس فوقها من لذة كما تري جميع الناس الا قليلا عليها و تري صور هذه الامتعة في عالم النوم الذي هو اسفل عالم المثال و البرزخ علي خلاف ما زعموا فتري دنانيرها و دراهمها علي صورة النجاسات و العذرات و القاذورات و تري بكاءها ضحكاً و ضحكها بكاء و سرورها حزناً و حزنها سروراً و هكذا و انت لاتكاد تدرك ذلك في حال يقظتك اللهم الا بحسب العلم الذي هو من تلك العوالم العالية فقس عليها سائر لذات الدنيا بالنسبة الي الاخرة فهي في الواقع الخارج آلام في الاخرة لاتدركها النفوس لخوضها في هذه الاعراض الدنيوية و كدورتها و غفلتها فاذا تخلصت و خلصت عن الاعراض تدرك الواقع علي ما هو عليه و هو مادام مشوباً مخلوطاً بالاعراض لايكاد يعرف حقيقة الحال الا بحسب العلم و هو شأن العالم لا كل احد.

فمن الاشياء التي يحبها الانسان او يبغضها و يستحسنها او يستقبحها هي الامور العادية التي ليست([10]) واقعية خارجية و يحسبها الجاهل انها

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 371 *»

محبوبة او مبغوضة او مستحسنة او قبيحة و ليس في الخارج كذلك فربما توافق و ربما تخالف بل كلها تخالف الواقع حقيقة و ما وافقه فقد شابهه بصورته و في الواقع الامورات العادية كلها مخالفة كما يأتي شرحها ان شاء اللّه فهي معمية للنفس و لاتكاد تعرف الامور الواقعية في ابتداء التعلق بهذه الاعراض المعمية فتحب ما يحبه المعاشرون و تبغض ما يبغضون من غير روية و تفكر فتعظم ما يعظمه الناس و تحقر ما يحقرون و تستحسن ما يستحسنون و تستقبح ما يستقبحون و هي لغاية ضعفها تابعة لكل ناعق لاحقة لكل سابق منقادة لكل قائد و سائق فكأنها لغاية ضعفها ليس لها طبع و لا رأي بحيث اذا سألتها عن فعلها لاتقدر علي الجواب مطلقاً لغاية ضعف اختيارها او اذا رقي قليلا يجيب بأن الناس يقولون كذا و لايكاد يعرف احتمال خطاء المخطئين ابداً و لايخطر بباله احتمال خلاف ما يقول سرمداً ففي الحالة الاولي يسير في الارض الاولي ارض الموت و الغفلة و في الحالة الثانية يسير في ارض العادة و هي الارض الثانية من الاراضي@اراضي خ‌ل@ السبعة نعم اذا صعدت من هذه الارض المظلمة و الظلمة العمياء المعمية درجة ربما تدرك بعض خطاء الناس في بعض الاحوال و لكن لاتدرك الواقع ايضاً و ربما يخطي‏ء في تخطئة الناس لانها اذا صعدت من ارض العادات تصل الي ارض الطبائع و انما تدرك ما تدرك من وراء حجاب الطبائع ما لم‏تتخلص منها.

فاذا نظرت من وراء منظرة الصفراء مثلا تستحسن مقتضياتها و تستهجن مقتضيات سائر الاخلاط فتحب حينئذ القهر و الغلبة و الفساد و الخراب و القتل و الخرب@الحرب خ‌ل@ و كل ما فيه الغلبة و تستهجن خلاف ذلك و لو صدر خلافها من نبي او ولي او وصي: و لاتقدر علي تصديق ما يخالف الصفراء و يخالف خصالها لضعف اختيارها و مغلوبيتها تحت سلطنة الصفراء و خصالها التي لاتفارقها من الجذب و الامساك و البخل و الغضب

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 372 *»

و التهور و ما يقتضيه الصفراء و تحسب في ذلك كله انها تحسن صنعاً.

فاذا نظرت من وراء حجاب البلغم و تنظر من منظرته تستحسن اضداد ما يقتضيه الصفراء لانه ضدها الحقيقي فتحب المقهورية و المظلومية و الاطاعة و الانقياد لكل قائد و الصلح و المداراة و اللين و تستحسن ذلك و تقبلها و لاتقبل خلاف ذلك و لاتقدر ان‏تصدق ما يقتضيه سائر الاخلاط و لاتقدر علي عقد قلبها علي الاشياء الواقعية الحقيقية فهي من وراء ذلك الحجاب تداري كل احد ظاهراً و لاتقبل و لاتعتقد خلاف ما يقتضيه البلغم باطناً فاذا غلب عليها الدم تنظر من وراء حجابه و تستحسن مقتضيات الدم و هو يجمع خصال الصفراء و البلغم كليهما فيحب من غلب علي مزاجه الدم القهر و الغلبة مثلا علي الرفق و اللين و المداراة فهو يستحسن خلاف ما يستحسنه الصفراوي و البلغمي المحض مذبذب بين ذلك لايصدق هذا و لا ذاك و انما يسير بين ذلك و لايقدر علي ادراك الحقائق الخارجية ابداً و انما ينصبغ ادراكه في بطن الدم بما يقتضيه و لايري خلاف ذلك رأياً ابداً فاذا غلب علي النفس السوداء اي غلب علي مزاج بدنها العرضي لاتکاد تستحسن ماسوي خصال السوداء و لاتستقبح ماسوي ما يضادها فتصير بذلك خبيث النفس منافقاً بخيلا جباناً تخاف من كل احد و لاتصدق احداً في قوله و لا في فعله و لاتكاد تعتقد علي قول احد و ان كان نبياً الا ان‏يأمره احد بما يقتضيه السوداء فتقبلها قبولا لاتكاد تنصرف منها ابداً.

بالجملة، و انت تعلم ان الابدان مركبة من هذه الاخلاط و ليست بصرفة في احدها فيصدر الافعال منها مركبة من خصالها و خواصها و تختلف في كل بدن علي حسب اختلاف تركيبه من الكم و الكيف و قرانات الكواكب العلوية بحيث لايقدر احد احصاءها الا من خلقها او من علمه اياها فاذا دام تلك الاحوال علي الانسان تصير تلك الصفات و الخصال له ملكة و عادة ثانية فوق العادة الاولي و فوق الطبائع بحيث يحب الانسان

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 373 *»

ما كان عادته او طبيعته من قبل ذلك او يبغض و ان اختلف طباعه فبذلك يصعد من ارض الطبائع و ان شئت تقول ينزل باعتبار آخر و يرد في ارض الشهوة و هذه الارض داهيتها ادهي من الارض الاولي و الثانية اذ السائر فيها يحب ما يحب و ان كان خلاف طبعه و يبغض ما يبغض و ان كان علي خلاف جبلته فيؤثر ما يحب علي ماسواه و يختاره و ان كان ماسواه حقاً و لايكاد يدرك قبح محبوبه و ان قبح في الواقع الخارج و يعمي حجاب هذه و ظلماته بصيرة النفس فلاتقدر علي تمييز الواقع و يشتبه عليها الامر الا ما رحم ربها فيرحم عليها بعناية من عنده بواسطة انذار المنذرين و تبشير المبشرين بالتدريج الحكمي الالهي بطرائف الحكم و لطائف الحيل شيئاً بعد شي‏ء و لايدرك ذلك الا من سبق له من اللّه الحسني.

فاذا نزل من هذه الارض المظلمة يهبط في ارض الغضب و المربي لهذه الارض و اهلها ظاهر المريخ الحار اليابس فيؤثر في من وصل اليها و يربيه علي حسب طبعه فيصير الانسان بذلک غضوباً قسي القلب لايبالي شيئاً و لايخاف من شي‏ء فيغضب علي من سواه سواء كان حقاً او باطلاً مستحقاً لذلك الغضب ام لا و لايكاد يعرف حسن المداراة و السلوك مع خلق اللّه تبارك و تعالي فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث فاذا نزل الانسان من هذا الوادي يهبط في واد سحيق ادهي من سابقه و ذلك الوادي هي ارض الالحاد و مربيها و مربي اهلها هو ظاهر المشتري الحار الرطب فيربيه علي حسب طبعه فيصير الانسان بذلك حسن الصحبة لين الجانب عليم اللسان و لكن فاسق و هو الذي يكسر ظهر اهل الحق نعوذ باللّه من شره فانه فتنة كل مفتون و اشبه الخلق بأهل الحق فيتخذه الشيطان لنفسه باباً و سبيلا الي اضلال الخلق فيري بعينه و ينطق بلسانه و يسمع باذنه و يبطش بيده و يذهب برجله و يوحي اليه ما يشاء مما لم‏يعلمه و يعلمه علم الاضلال و طرق الحيل في ابطال الحق و اظهار الباطل علي

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 374 *»

صورته فيلحد في آيات اللّه سبحانه و يحرف الكلم عن مواضعه و يغير المعني بحسب رأيه بحيث لايعلمه الغافل الجاهل و يحسب انه علي الحق و ربما يري المخالف له مخالفاً للحق نعوذ باللّه من شره و ذلك الذي ورد في حقه عن الخبير العليم زين العابدين7 رواية بأنه اضر علي الضعفاء من جيش يزيد لعنه اللّه علي الحسين7 و اصحابه لانهم سلبوا منهم الاموال و قتلوا منهم الرجال و لهم عند اللّه سبحانه بعد ذلك احسن الاحوال و لكن مثل هذا الذي يشبه العلماء يسلب من الضعفاء ايمانهم و يهديهم الي عذاب السعير اللهم الا ان‏يرحم اللّه علي من سبق له منه([11]) الحسني و يهديه الي سبيل الحق بواسطة العلماء العاملين الهادين المهديين.

بالجملة فاذا نزل الانسان من هذا الوادي السحيق يهبط الي الارض السابعة السفلي نعوذ باللّه منها و من اهلها و هي في مقابل السماء السابعة فيربيها و اهلها ظاهر الزحل الذي هو من قبله العذاب فيصير السائر فيها سائراً في ارض الشقاوة و لاينحصر علمه بالعلوم الظاهرة فداهيته ادهي من سوابقه لانه يمر علي ما كان عليه من قبل فاذا وصل الي الارض السابعة لايفقد ما اكتسبه من الاراضي السابقة مع انه بعد الوصول الي الارض السفلي يحصل له بعض التصرفات فضلا عن العلوم و يحصل له بعض الاحاطة علي من دونه فيصدر منه بعض المرادات الخارقة للعادة بقوة ما حصل له من ظاهر فلك زحل الذي هو آية العقل المحيط بالاشياء من جميع جهاتها و لماكان يستمد هذا الانسان من ظاهره الذي هو خلاف باطنه يدعي لنفسه بعض ما كان ثابتاً له فهذه الاراضي السبع هي ابواب جهنم لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم كما عرفت فأولها ارض الغفلة و تسمي بأرض الموت و مربيها ظاهر فلك القمر و ثانيتها ارض العادة و مربيها ظاهر فلك عطارد و ثالثتها ارض الطبع و مربيها ظاهر فلك الزهرة و رابعتها ارض

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 375 *»

الشهوة و مربيها ظاهر فلك الشمس و خامستها ارض الغضب و مربيها ظاهر فلك المريخ و سادستها ارض الالحاد و مربيها ظاهر فلك المشتري و سابعتها ارض الشقاوة و مربيها ظاهر فلك زحل و كل واحد من تلك الكواكب له ظاهر و باطن باطنه فيه الرحمة لانه جهته الي ربه و جهة نوره و كماله و اضمحلاله في جنب مشية اللّه سبحانه و امره و حكمه و ظاهره من قبله العذاب لانه جهته من نفسه و انيته و ماهيته فظاهر كل واحد ارض من الاراضي و باطنه سماء من السموات و ذلك في كل عالم بحسبه اذ كل ذلك في كل عالم فهي في الدنيا و البرزخ و الاخرة موجودة و في كل عالم لكل واحد ظاهر هو ارض تلك الرتبة و باطن هو سماء ذلك.

بالجملة /فاذا نزل@فانزل خ‌ل@ الانسان من عالم النفس الي هذا العالم المحسوس ابتلي في كل عالم بين اراضي ذلك العالم و سمواته فاذا دام علي حال واحد في كل رتبة حتي صار تلك الحال له ملكة اكتسب النفس من تلك الحالة اكتساباً لامحالة فهو حين كونه في هذه الدنيا يحسب انه مهتد و يحسب انه يحسن صنعاً لغلبة الحجب و الاغشية و ظلمات الكثرات و الالام و اللذات و هوي النفس الدانية و الشهوات و الحال ان كلها علي خلاف ما خلقت النفس عليها و هي تكتسب من كلها عن غفلة منها فاذا عادت الي مبدئها مع ما اكتسبته من الادني و هو مناف لكينونتها الاولي التي خلقت عليها مع انها خلصت عن اعراض الادني@الاداني خ‌ل@ و الكدورات المانعة لاحساسها الالام التي اكتسبتها من الاعراض تشعر بأنها آلام حسبتها قبل التخلص انها لذات فتعذب عليها ابداً نعوذ باللّه لان عرصة الاخرة عرصة لاتنقضي آناتها مطلقاً فاذا وجد هناك شي‏ء لايعقل فناؤه و محوه منها فلذلك تري الشارعين المطلعين عليها: امروا الناس بالاعراض عن الاعراض بالكلية و الزهد عن اسباب الدنيا و امتعتها و الاقبال الي اللّه سبحانه بالكلية و تراهم بأنفسهم دائماً في رياضة و مشقة و زهد من الدنيا و اضعاف القوي الحيوانية

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 376 *»

و النباتية و الجمادية و ليس ذلك الا لاجل اطلاعهم علي ان مقتضيات العوالم الدانية و مكتسباتها مهلكة للنفوس معذبة لها فلذلك اعرضوا عنها بالكلية و امروا الناس بالاعراض عنها بالكلية.

و لايقال لو كان الامر كذلك فلم يحل اللّه سبحانه لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث لان اللّه سبحانه يحل لهم الطيبات لاجل علمه سبحانه بأنهم في ابدانهم محتاجون الي بدل ما يتحلل منها فأحل لهم بعض الاشياء لاجل استمساك البدن الي الاجل المقدر و لم‏يأمرهم مع ذلك بمحبتها و الاكتساب من مقتضياتها بل امرهم بالزهد عنها بأسرها و استعمال بعض ذلك في بعض الامور اللازمة لاينافي الزهد فيها و الاعراض عنها بحسب الباطن في القلب فلذلك لو احب رجل شيئاً من العوالم الدانية و لو كان من طيباتها و تعلق عليها و اكتسب منها بحيث صارت مكتسباته ملكة له يعذب عليها لامحالة لان كل ما يشغلك عن اللّه سبحانه فهو صنمك و انت مشرك بربك بعبادة الصنم و محبته اللهم الا ان المؤمن الحقيقي الذي ليس ايمانه عارية عنده لايكاد يحب ما امره اللّه سبحانه بالاعراض عنه و لو فعل يوماً ما خلاف امر اللّه سبحانه فانما يفعله بأعراضه الدانية لا بذاته و هي زائلة عنه ان شاء اللّه و هو بذاته طيب طاهر عن ادناس الاعراض بعد زوالها منه فهو طيب الذات يقيناً فان عمل عصياناً فهو لخبث عرضه فهو طيب الذات خبيث العمل و العمل في الواقع لم‏يصدر منه لان العمل الذاتي لايعقل ان‏يفارق الذات ابداً لانه صفتها و اثرها و الاثر لايتخلف عن مؤثره ابداً.

بالجملة المقصود بالذات في تحرير هذه الكلمات سر لزوم وجود الانبياء: و سر وجود الالام و احساسها في الاخرة و سر وجود اللذات فيها و احساسها اما وجود الالام و احساسها فقد مر شرحها و اما سر وجود اللذات في الاخرة و احساسها و عدم احساسها في الدنيا كما هي فلايحتاج الي شرح لانها تعرف عن جهة المقابلة.

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 377 *»

و مجمل القول فيها ان اللّه سبحانه هو الحي الذي لايموت و هو اصل كل نور و خير و كمال و امر الناس الي الاقبال اليه سبحانه و لا شك ان الاقبال الي اللّه سبحانه اقبال الي العالم الذي هو فوق عالم النفوس بدرجات لايعلمها الا اللّه سبحانه فاذا امتثل@امتثل الممتثل خ‌ل@ امره و اكتسب منه تهيأ بهيأة مشيته و اتصف بصفته و تخلق بأخلاقه بحيث يفقد نفسه و يظهر ربه بظهوره له و تجليه عليه و اي دوام و لذة ادوم و الذ من وصول العبد الي جوار ربه الرؤف الرحيم فهو دائماً في لذة ابداً لان عالمه عالم لا انقضاء له ابداً فهو لاتصافه بصفة حبيبه يصير مادته في بطن الصفة مستحيلة كما عرفت سابقاً فتنفذ صفة الرب في اعماقه كما ان صورة الحلاوة تنفذ في اعماق مادة السكر و تستحيل مادته في ضمن الصورة صورة الحلاوة فتصير حلواً من جميع جهاتها كذلك مادة المؤمن تستحيل في ضمن صورة الايمان و تضمحل في صفة الرب جل شأنه و تنفذ فيه@فيها خ‌ل@ الصورة و الصفة بحيث لايبقي له شي‏ء الا و كان مستحيلاً في ضمن صورة الايمان مضمحلاً في جنب الرب المنان بحيث كأنه هو هو لا فرق بينه و بينه الا انه صفته و نوره و اثره و عبده فهنالك يشهد ان لا اله الا اللّه مخلصاً له الدين بشهادة اللّه سبحانه له.

بالجملة فظهر و الحمد للّه وجوب وجود الانبياء و العالمين بمقتضيات النفوس و مقتضيات ركونها الي العوالم الدانية لتذكرهم و تعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل التذكير لفي ضلال مبين لكثرة الكثرات و شدة الظلمات و ركود الكدورات و تراكم مقتضيات هذه الكثرات المانعة من رؤية عالم الحقائق و شعور محاسنها و بذلك ايضاً يرتفع اشكال آخر و هو ان اهل النار لو كانوا من النار و مددهم منها فلم يعذبون فيها و قد علمت و الحمد للّه ان كينونة اهل النار علي حسب الفطرة الاولي ليست من النار و انما حرفوا الفطرة الاولي و غيروها و بدلوها في ضمن الاكتسابات الدانية منها فصارت هي نار موقدة عليها فلما كانت كينونتهم

 

 

«* الرسائل جلد 2 صفحه 378 *»

الاولي ليست من جنس النار تعذب عليها و تؤلم ابداً لعدم انقضاء اوقات عالم الاخرة نعوذ باللّه و عدم انقضاء الاوقات صار سبب الخلود و عدم انقطاع النعيم و العذاب في الجحيم فبذلك فاعرف سخافة قول الحكماء الظاهريين الذين قد زعموا ان العذاب يصير بسبب الدوام عذباً بحيث لايحس اهل النار الم العذاب و ليس ذلك الا لقياسهم الاخرة بالدنيا فزعموا ان دوام الاخرة كدوام الدنيا الذي هو مرور اوقات عديدة علي شي‏ء واحد فلما رأوا ان الوارد في الحمام الحار مثلاً تؤلمه الحرارة اولاً ثم اذا دام مرور الاوقات عليه في الحرارة يأنس بدنه بالحرارة بالتدريج حتي لايحس بألم الحرارة و ليس ذلك الا لعدم شعور معني دوام الاخرة و قياسها بالدنيا و ليس الامر كما يزعمون بل عالم الاخرة عالم ثابت قار بالذات غير مار الاوقات ابداً فلايمر علي الحالة الاولي آن و وقت آخر حتي يستأنس احد بالالام التي وردت عليه اول مرة بل جميع آناته آن واحد و لايمر علي احد بل و علي حالة آن ثان حتي يمكن الاستيناس نعوذ باللّه من الم في حالة لاينقضي مدتها ابداً نعوذ باللّه نعوذ باللّه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الاخرة حسنة و قنا عذاب النار بمحمد و آله الاطهار صلواتك عليهم مادام يكور الليل علي النهار و لعنتك و نكالك علي اعدائهم اهل النار.

و قد فرغت من هذه الكلمات في ليلة الخميس من شهر جمادي الاولي من شهور سنة 1277 اللهم اغفر لي و لجميع المؤمنين.

 

([1]) القوية. ظ

([2]) الغافل. خ‌ل

([3]) في بيانها. خ‌ل

[4] لم‌يهد. خ‌ل

[5] اکتسبت. خ‌ل

([6]) شروراً. ظ

([7]) وجهاً. ظ

[8] تهيؤها. خ‌ل

[9] الاصفياء. خ‌ل

[10] ليست لها. خ‌ل

[11] من الله. خ‌ل