فائدة في اعجاز القرآن
من مصنفات العالم الرباني و الحکيم الصمداني
مولانا المرحوم الحاج محمد کريم الکرماني اعليالله مقامه
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 393 *»
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم ان اغلب الناس جاهلون بما تحدي به النبي صلي الله عليه و اله امته في امر القرآن و اختلفوا فيه حتي وقعوا تحت كل كوكب و انا احب ان اذكر في هذه الورقة ما يكشف عن وجه من وجوه اعجاز القرآن علي نهج الحق بحول الله و قوته بحيث يسكن به القلب و يطمئن به الفؤاد ان شاءالله تعالي.
فاعلم اولا ان كل من يتحدي قوما بشيء فينبغي اولا معرفة جهة تحديه انه هل يتحدي في جنسه الاعلي او الادني او نوعه او فصله او صنفه او شخصه حتي يعرف المتحدين جهة التحدي فلايعارضوه بما لايتحدي به فمن البين ان المتحدي يتحدي بالجهة الغير الشايعة او الجهة الغير العادية من الشيء لا الشايعة او العادية فان التحدي بها من عمل السفيه فاذا كتب احد خطاً و تحدي به لايريد من تحديه ان ائتوا بحروف هجاه او مداده او عبارته فان هذه الجهات شايعة، كل احد يقدر ان يكتب الحروف كيف كانت و يحصل مدادا و يكتب تلك العبارة و لايتحدي بها احد فانما تحدي بحسنه الغير المقدور لكل احد و استقامته فمعني تحديه ان ارسموا خطا بهذا الحسن و الاستقامة و القوام ان كنتم صادقين سواء كتبتم هذه العبارة او غيرها بالسواد او بالحمرة او غيرهما فان الغرض جهته الغير المقدورة و هكذا في ساير الصنايع و كذلك نبي اذا تحدي بشق القمر فلايتحدي بمشيه الي الجبانة و لا بنظره الي السماء و لا بحشده الناس و لا باشارته نحو القمر و لا بغير ذلك من الامور المقدورة التي يقدر عليها كل احد فانما وقع التحدي بشق الجرم السماوي و اراد منهم ان يشقوا من السماء كوكبا ما اذ لا خصوصية للقمر و كل احد يعرف من نفسه انه لايقدر علي الاتيان بمثله و تعجز عن ذلك و هذا معني المعجز ان يعرف كل محجوج به عجزه عن الاتيان بمثله اذ يراه فوق طاقته فاللازم ان تعرف اولا ان النبي صلي الله عليه و اله تحدي باي شيء من القرآن و اراد الاتيان باي شيء منه
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 394 *»
فنقول من البديهيات انه لميرد منهم اتيان حروف هجاه فانه كان شايعا عند كل ناطق و لميكن فيه اعجاز و كذلك لميرد كونه عربيا مطلقا فان كل احد كان يتكلم بالعربي و لا اعجاز فيه و كذلك لميرد كلماته فان كلماته كلمات كانت العرب يتكلم بها بل لو كانت غير مستعملة لكانت منكرة و كذلك لميرد منهم نوع السجع و القصص و الحكم و المواعظ و الامثال فان كل احد يقدر ان يسجع كلامه و يقص فيه قصص الانبياء سلام الله علي نبينا و آله و عليهم و يأمر و ينهي بما يشاء و يعظ و يأتي بامثال فان الادباء و الخطباء دائما كانوا كذلك و الخطب كانت من سيرة العرب و خطبهم معروفة مشهورة كلها ذات سجع و قصص و احكام و امثال و نصايح فلميتحد النبي صلي الله عليه العرب بمثل ذلك و لمتكن العرب عاجزا عن مثل ذلك و لايتحدي بذلك عاقل و لايخفي سفاهة المتحدي بمثلها و كذلك لم يتحد بآية من آيات كتابه فان من آياته ثم نظر و مدهامتان و العرب ليس يعجز عن مثل ذلك البتة و كل صبي منهم و من غيرهم ممن يفهم العربية يقدر علي التكلم بمثله بل كل كلام مثله فتحديه بالقرآن بما فيه من الامور الغير العادية فمن جملته ان يأتوا بكتاب فيه اخبار بالغيب و ضماير اكثر الناس و اسرار المنافقين و من جملته اني اتيت بكلام في حال نهاية تسلطكم في الفصاحة و البلاغة و المقاولة في فنون الادب و الكلام من الاشعار و الخطب و الرسايل و غير ذلك و كان كلامي بنوعه خارجا عن جميع فنونكم فليس بشعر و لا خطبة و لا رسالة و لا غير ذلك من فنون ادبكم مع مهارتكم فيه و استعلائكم علي كل احد به فائتوا انتم ايضا بنوع كلام لميتكلم به احد و اخترعوا فنا آخر كما اخترعت فنا مبتدعا جديدا من كلماتكم المحدودة المعروفة كما سأل ابوجهل اباعبدشمس بعد ما تلي له النبي صلي الله عليه حم السجدة أ خطب هو؟ قال لا ان الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور و لا يشب بعضه بعضا قال افشعر هو قال لا اما اني سمعت اشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر قال فما هو قال دعني افكر فيه فلما كان من الغد قالوا له ما تقول قال قولوا هو سحر فانه اخذ بقلوب الناس فانزل الله سبحانه ذرني و من خلقت وحيدا الايات. و روي ان
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 395 *»
الوليد و هو ابوعبد شمس قال لبنيمخزوم و الله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الانس و لا من كلام الجن ان له لحلاوة و ان عليه لطلاوة و ان اعلاه لمثمر و ان اسفله لمغدق و انه يعلو و ما يعلي عليه القصة. فمن جملة تحديه نوع كلامه انه كان يخالف اشعارهم و محاوراتهم و مكاتباتهم و رسائلهم فهو جوهر قد استخرجه من بحر الالفاظ المتداولة فتحديهم ان استخرجوا انتم ايضا مثله في البداعة و البراعة و الا فبعد ما استخرج هذا النوع من الكلام يمكن لكل عربي و عجمي ان يجري علي سبكه و يأتي بكلام علي نظمه و يضرب بعضه علي بعض و يستخرج منها كما هو معلوم عند كل من له ربط بالعربية انه يمكن ان يرتب الانسان كلاما علي سبك القرآن له آي و سور و سجوع و انذار و اعذار و حكم و مواعظ ولكنه بعد ما استخرج النبي صلي الله عليه و آله هذا النوع ألاتري ان من استخرج بحرا من العروض غير البحور المعروفة المتداولة هو بديع خلاف الشايع و اما اذا استخرج و ظهر وزنه و تقطيعه يمكن لكل احد له طبع الشعر ان يجري علي ذلك الوزن بعد فيمكن بعد استخراج النبي صلي الله عليه و آله هذا النحو من الكلام ان يجري مجريه في السبك النوعي و ان كان القرآن احلي و افصح ولكن نوع الوزن ممكن بل لاجل انه كتاب كبير جامع للحكم و المواعظ و غيرها كل من اراد ان ينسج علي منواله لابد و ان يقدم و يؤخر كلماته و آياته حتي يأتي بمثله و هو سرقة عند علماء الادب و لايجوز ذلك و المجاري بالسرقة مغلوب نعم الا ان يأتي بغير هذا السبك بسبك بديع حلو فصيح بليغ يوازيه فعند ذلك يقبل منه المجاراة و اعجب من ذلك انه استخرج نوعا من الكلام منثورا غير منظوم حتي لايكون لاحد عذر كالذين لايقدرون علي نظم الشعر و ينضم الي ذلك حلاوة كلامه و جزالته و مأنوسيته و فصاحته و بلاغته و احتوائه علي الحكم فلميظهر من العرب قبله كلام علي هذا السبك ابدا و جريهم بعد علي هذا السبك ليس بمعجز لانهم لميخترعوه و انما تعلموه و قد ذكرنا انه بعد التعلم يمكن الجري علي سبك علم و اعجب من ذلك انه تكلم بآنس كلامه و اكثره تداولا حتي لايكون لاحد منهم عذر فاذا ظهر الاختراع في هذا السبك
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 396 *»
صار ادل علي صدقه صلوات الله عليه و ينضم الي ذلك الحلاوة و الوقع في القلوب و العظمة ما لايخفي.
و اما الفصاحة و البلاغة التي فيه فالحق في المسألة انهما فوق تميز الناس يعني ان يعرفوا ان فصاحته و بلاغته بالغتان حد الاعجاز و خرق العادة ام لا و ان كان كذلك في الواقع فانه كلام الخالق و لكنهما خارجتان عن مقدار تميز الناس فلايعرفون خارقيته للعادة من حيث الفصاحة و البلاغة و احتوائه علي العلوم و ساير المحاسن و ما لايعرفه الناس لايتم به الحجة علي الناس فاذ لم يعرف الرجل ان القرآن افصح او كلام بعض الفصحاء اي حجة تقوم عليه بانه خارق للعادة بل في الحقيقة ليس ذلك شأن افصح الفصحاء فان الفصاحة ليس لها حد يوقف عليها و يعرف المعتاد منها و الخارج عنه فلايعرف مقدار فصاحة القرآن امرؤالقيس مثلا و من دونه و اذا عارضه احد بكلام فصيح بليغ لايمكن موازنتهما و معرفة الخارج عن المعتاد منهما و المعتاد فان فهم الناس ليس ازيد من مقدارهم و ان كان اذا عرضا علي نبي او وصي نبي او نقيب بين وجه زيادة القرآن عليه و لكن ربما بعد بيانه ايضا لايفهمه الغير البالغ مرتبتهم فان لا كل حسن يدركه كل احد فحد فصاحة القرآن لا تقوم حجة علي العباد لا سيما العجم كيف لا و الي الان لميعض العلماء بضرس قاطع علي وجه اعجاز القرآن و كيفيته و وجهه بعد التنبيه و التفكر و العلم و القوة فكيف باهل الجاهلية الجهلاء و القول بانهم كانوا يدركون الفصاحة و البلاغة اكثر من المتأخرين تحكم محض كيف و المتأخرون ضبطوا اطرافه و جمعوا شوارده و كتبوا الكتب و صنفوا التصانيف و تؤامروا في كل مسئلة بل لو قال قائل ان المتأخرين اعلم بالفصاحة و اشارات الكلام و معانيها و مواقعها من المتقدمين الف مرة لصدق فان الافهام تترقي و الاحلام تتزايد و الي الان لميعرفوا وجه اعجاز القرآن حتي قال منهم انه بالصرف و منهم انه معجز لانه قديم الي غير ذلك فكيف كان يصير امرا معجزا لايميزه المكلفون و لميفرقوا بينه و بين الامر الصادر عن ساير العباد و ليس اعني بقولي ذلك ان فصاحته ليس فوق العادة و خارقا لها بل اقول انا نعرف ذلك بعد التصديق بانه كلام الله لا بان العرب او العجم يعرف ذلك بمداركه و اما الذي ذكرنا من ابتداع نظمه و غرابته
* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 397 *»
و خروجه عن جميع انحاء الكلام فهو من المعجزات علي العرب و العجم فمن كان يزعم انه ليس استخراج نوع كلام جديد بمعجز فليستخرج نوعا آخر يكن له حسن و بهاء و جزالة و سهولة كما يكون للقرآن غير ما تكلم به جميع القدماء و المتأخرون و ليس وجه اعجاز القرآن بمنحصر في ذلك و انما اردنا ان نبين وجها ينتفع به العرب و العجم و الفصيح و المحرم.
و وجه آخر ما نبه الله سبحانه به في القرآن بقوله و ان كنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فأتوا بسورة من مثله اي امي لميتلمذ علي العلماء و لميختلف الي الحكماء و لميكن شاعرا ابدا و اتي بكتاب حاو للحكم و العلوم و الاداب التي تشهد النفوس المعتدلة بحقيتها و اتي بحقايق الوقايع و القصص و اخبار عن الغيب فان كنتم في ريب من امره و صدقه فاتوا بسورة مثل القرآن من رجل امي لايقرؤ الكتب و لميحصل العلوم و الحكم و القصص فصدور مثل هذا الكتاب التي لاتحصي عجائبه و لا تفني غرائبه من رجل امي هو خارق للعادة فثبت انه من عند الله القادر علي كل شيء و هذا ايضا وجه دال علي ان القرآن كلام الله و من عند الله سبحانه يمكن معرفته للعالم و الجاهل و العرب و العجم بلاشك.
و وجه آخر ايضا مما نبه الله سبحانه به بقوله لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا اي كانت ترد اليه الاذهان و تصل الي ما فيه و تفهم ظاهره و خافيه كما وصلت الافهام الي كلمات الحكماء و العلماء حتي الفلاسفة الرامزين فان الظنون ما تراكمت علي شيء الا كشفته فلو كان القرآن كلام غير الله لكشفت الافهام كنهه و عرفت اسراره و اشاراته و قد حارت الالباب في فهم القرآن و اشاراته و بدايعه و اسراره حتي ان الناس لميعرفوا منه الا الظاهر العربي مع احتوائه علي العلوم كما ينبه عليها آل محمد عليهم السلام حينا بعد حين و يصل اليها بعض افهام شيعتهم فلو كان من عند غير الله لكان تكشف عنه الظنون مع كثرة تلاوتهم له آناء الليل و اطراف النهار و فيه تبيان كل شيء كما نعرف منه شيئا بعد شيء و نصل الي اشاراته زمانا بعد زمان حتي انه يمكن منه الاستدلال في كل علم لكل مسئلة و الان لايصل اليه الا من خصه الله بعلمه و لو كان من عند غير الله
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 398 *»
لفهمه الناس و استخرجوا باطنه البتة كما استخرجوا ساير علوم الناس من كتبهم و هذا وجه لميتنبه به احد فلمرأينا ان الناس مع كثرة تداولهم و كتبهم التفاسير و الشروح و بحثهم و درسهم فيها اكثر من كل شيء في كل عصر حتي ضبطوا حروفه و رسومه و نقاطه و تجويده و غرايبه و الفاظه و قرائته بحيث لميتركوا من ظاهره شيئا الا ضبطوه و مع ذلك كله لميفهموه و يزداد في كل زمان غضارة و نضارة و يؤتي اكله كل حين شيئا بعد شيء عرفنا انه ليس بكلام الخلق و انما هو كلام الخالق البتة و هذا الوجه ايضا ينفع العوام و الخواص مثل ما سبق.
و وجه آخر ما قاله سبحانه ام يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين فان لميستجيبوا لكم فاعلم انما انزل بعلم الله الاية.
وجه الاستدلال به ان الافتراء من المفتري و المفتري ليس يأتي كلامه علي نمط الصواب و السداد و سيرة الانبياء و المرسلين و طريقة الصديقين و تصديق ما هم عليه مع معاني تحكم العقول بفطرتها علي صدقها و استقامتها بحيث لايوجد فيها ما ينافي العقول السليمة و ما ينافي التورية و الانجيل و الزبور كما قال لايأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و قال ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شيء و هدي و رحمة لقوم يؤمنون فان كان هذا افتراء يمكن افتراؤكم ايضا فافتروا ايضا عشر سور يطابق كتب الانبياء و سيرتهم و يصدقها العقول السليمة و يحكم بصحتها و صوابيتها و شاركوا مع من شئتم من دون الله فان المفتري لايأتي كذلك فهذا دليل آخر يدل علي انه من عند الله يعرفه كل احد و لذلك قال سبحانه و ما كان هذا القرآن يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ام يقولون افتريه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين. انه افتراء و ليس من الله فان الافتراء يمكن الاتيان بمثله فهذه الوجوه و امثالها مما يمكن للعوام معرفتها و اعظم من هذه كلها ان النبي صلي الله عليه و آله قام بين يدي الله و دعا
«* مکارم الابرار عربي جلد 14 صفحه 399 *»
الي الله و ادعي الرسالة من عنده و اتي بكتاب نسبه اليه و جعله سنده و حجته و معجزته و ذكر فيه لو اجتمعت الانس و الجن علي ان يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ثم ترقي في التحدي فقال فاتوا بعشر سور مثله مفتريات ثم ترقي فقال فأتوا بسورة مثله ثم ترقي و قال فاتوا بحديث مثله و استشهد الله بقوله كفي بالله شهيدا بيني و بينكم و قال يحق الله الحق و يبطل الباطل و قال ان الله لايصلح عمل المفسدين. و الله سبحانه مطلع علي ذلك كله فلو لميكن من عنده و هذا معظم حجته فلكان يبطله و يزهقه و يدحض حجته و يبطل امره لانه عليه لا علي غيره و لايعلم حقايق الاشياء الا هو و لكان يبطل امره كيف شاء او يثير احدا يأتي بكتاب مثل كتابه حتي يبطل و لو كان العرب جاهلين او احمقين او مداهنين او مسامحين او غير مطلعين بالمناظرة او كانوا اتباع كل داع او ايما كان فلميكن الله كذلك و لكان الواجب في الحكمة ان يبطل امره فلميبطل امره بل قويه و نشره و نشر امره يوما فيوما فاي دليل اقوي من ذلك للعوام و الخواص ان القرآن معجز و من عند الله سبحانه و ان لميعرف حد فصاحته و بلاغته و منتهي علومه و لاتعرف البتة فما ذكره الاصحاب من غيره هذه الوجوه تكلفوا و كلها مخدوشة يسع المخالف ان يعترض عليهم فيها.
فقد كتبه العبد الاثيم كريم بن ابراهيم علي غاية الاستعجال في صبيحة يوم الاربعا ثالث عشر.